تجربة الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال
نابلس: خاص
تكتسب تجربة الحركة النسوية الأسيرة صفة مميزة وان تشابكت في تجربتها مع مجمل التجربة الجماعية للأسرى ، فهي أكثر ألماً ومعاناة وتحمل في خصوصيتها مدى النضج الوطني في المجتمع الفلسطيني حيث تشارك المرأة بدورها النضالي إلى جانب الرجل في مقاومة الاحتلال
وبرغم قلة المصادر التي وثقت أعداد و أسماء النساء الأسيرات فان المعلومات الأولية تشير إلى أنه دخل المعتقل منذ بداية الاحتلال حتى الآن ما يقارب ( عشر آلاف ) امرأة فلسطينية . وشمل الاعتقال الفتيات الصغار وكبار السن منهن ، وكثيراً ما كان من بين المعتقلات أمهات قضين فترات طويلة في السجون مثل ماجدة السلايمة وزهرة قرعوش وربيحة ذياب وسميحة حمدان وغيرهن
وشهدت اكبر حملة اعتقال للنساء الفلسطينيات الفترتان ما بين (1968 - 1976) وفي فترة الانتفاضة الأولى . وتعرضت الأسيرات للكثير من حملات التنكيل والتعذيب أثناء الاعتقال ، وتفيد شهادات عديدة للأسيرات أنهن تعرضن للضرب والضغط النفسي والتهديد بالاغتصاب . وشكلت أعوام 68-69 سنوات قاسية جداً في تاريخ الحركة النسائية الأسيرة ، وخاصة في بداية التجربة الاعتقالية وبدء النضال والكفاح للدفاع عن ذواتهن داخل السجون من مخططات تدمير وتحطيم النفسية والإرادة الوطنية لدى الأسيرات
وقد خاضت الأسيرات منذ بداية تجربة الاعتقال العديد من النضالات والخطوات الاحتجاجية والإضراب المفتوح عن الطعام في سبيل تحسين شروط حياتهم المعيشية وللتصدي لسياسات القمع والبطش التي تعرضن لها
فقد شاركت الأسيرات بالإضراب المفتوح عن الطعام عام 1984 والذي استمر 18 يوماً ، وفي إضراب عام 1992 والذي استمر 15 يوما وفي إضراب عام 1996 والذي استمر 18 يوماً ، وكذلك في إضراب عام 1998 والذي استمر 10 أيام إضافة إلى مشاركتهن في سلسلة خطوات احتجاجية جزئية ، حيث كانت ابرز المطالب الحياتية للأسيرات تتمثل بالمطالبة بفصلهن عن الأسيرات الجنائيات وتحسين شروط الحياة الإنسانية داخل السجن كتحسين الطعام كماً ونوعاً والعلاج الصحي والسماح باقتناء الكتب والراديو والصحف والرسائل وإدخال الملابس والأغراض عبر الزيارات ووقف سياسة القمع والتفتيشات الاستفزازية من قبل السجانات . واستطاعت الأسيرات بفعل نضالاتهن وصمودهن تحقيق العديد من المنجزات وبناء المؤسسة الاعتقالية باستقلالية داخل السجن
إن معاناة المرأة الأسيرة تتعدى الوصف ، فهي الأم التي أنجبت أطفالها داخل السجن ليتربى الطفل مدة عامين بين القضبان وفي ظلام الغرف الموصدة كحالة الأسيرات أميمه الأغا وسميحة حمدان وماجدة السلايمة
وهي المرأة التي تعاني المرض في ظل الإهمال الصحي الذي تتميز به سياسة إدارة السجون ، وهي المرأة التي صبرت سنوات طويلة حيث قضت بعض الأسيرات مدداً تزيد عن العشر سنوات كعطاف عليان وزهرة قرعوش ونادية الخياط وفاطمة البرناوي _ وهي أول أسيرة فلسطينية _ وغيرهن
وسجل تاريخ الحركة النسوية الأسيرة مواقفاً أسطورية عجز الرجال عنها كما حصل عام 1996 عندما رفضت الأسيرات الإفراج المجزوء عنهن على اثر اتفاق طابا وطالبن بالإفراج الجماعي ودون ذلك فضلن البقاء في السجن واستطعن أن يفرضن موقفهن في النهاية ليتم الإفراج عن جميع الأسيرات في بداية عام 1997
وقد خاضت الأسيرات معركة الحرية بعد اتفاق أوسلو تحت شعار ( لا سلام دون إطلاق سراح جميع الأسرى والأسيرات) ، وشاركن في الخطوات النضالية إلى جانب بقية الأسرى في كافة السجون في سبيل تحقيق أهدافهن بالحرية والإفراج
ويبلغ حالياً عدد الأسيرات المعتقلات عشر أسيرات وهن : سونا الراعي ، ونسرين طه ، وعبير عمرو ، وسعاد غزال ، ومها العك ، و أمنة منى ، سارة عيسى عمرو ، وجدان احمد بوجة ، عبير ناصر أبو خضير ، هناء أبو خضير ، ويتواجدن في سجن النساء في الرملة وفي مراكز التوقيف في ظروف صعبة حيث تم وضعهن في قسم السجينات الجنائيات ويتعرضن لاستفزازات يومية وتقليص في ساعات النزهة المحددة لهن إضافة إلى حرمانهن من إدخال الأغراض اللازمة عبر الزيارات . وازدادت معاناتهن أسوة ببقية الأسرى خلال انتفاضة الأقصى حيث استغلت إدارة السجون عددهن القليل وقامت بالاستفراد بهن وزجهن في زنازين انفرادية وحرمانهن من ابسط متطلبات الحياة الإنسانية
ومن بين الأسيرات الطفلة سعاد غزال ( 16 عام ) والتي حكم عليها بست سنوات ونصف في نفس اليوم الذي حكم فيه على المجرم " ناحوم كورمان " قاتل الطفل الفلسطيني حلمي شوشة بستة شهور خدمة مجتمع مما يوضح مدى العنصرية وغياب العدالة القانونية في القضاء الإسرائيلي
إنها تجربة المرأة الفلسطينية المناضلة : الأم والأخت والزوجة والطفلة .. القائدة في الميدان ، وفي البيت ومربية الأجيال والثوار ، مربية القادة والمناضلين - فالأم التي لم تودع بنيها إلى الزنازين لم تحبل ولم تلدِ
القسم الأول
المرأة الأسيرة .. رحلة الآلام والصمود
سيدي المحقق : إن شعباً يستعبدُ شعباً أخرا لا يمكن أن يكون حراً .. هذه بديهية ارحلوا عن وطني ثم نتناقش
الأسيرة سونيا نمر
تعرضت المرأة الفلسطينية لأساليب قمع وحشية أثناء الاعتقال وفي مرحلة التحقيق على يد رجال الشاباك الصهيوني ، وقد استخدمت شتى أنواع الضغط النفسي والتهديد والاعتداءات على المعتقلة الفلسطينية من اجل إركاعها واستسلامها وتحويلها إلى إنسانة مفرغة وضعيفة ومحطمة .. وكان الاعتقاد السائد لدى المحققين أن المرأة الفلسطينية لا تستطع الصمود والمواجهة ، بل أنها أداة ضعيفة يمكن الاستفادة منها للحصول على معلومات وأسرار الثورة ، إلا أن هذا الاعتقاد سرعان ما تحطم وثبت فشله أمام التحدي الكبير الذي وقفته المرأة الفلسطينية المعتقلة في مواجهة المحققين وأساليبهم التعسفية و اللا إنسانية ، وقد تجلت معاني بطولية أسطورية لدى المرأة المعتقلة وهي تقف عنيدة متكبرة ومتمردة على التهديد والتعذيب الذي تعرضت له ولم تهتز قناعاتها الوطنية وإيمانها وانتمائها بقضيتها فتحملت الكثير من التضحيات والآلام لحماية كرامتها وشرفها والدفاع عن وجودها الإنساني بشكل مشرف ، وسجلت تجربة المرأة الفلسطينية أروع وأنبل الشهادات التاريخية المليئة بالتضحية والإيثار والصمود في معركة التحقيق التي مرت بها وفي أصعب الظروف و أشدها .. ومن الأساليب الوحشية واللا إنسانية التي مورست مع المرأة الفلسطينية الأسيرة نذكر منه:ا
التهديد بالاعتداء الجنسي : ومن ظن المحققون الصهاينة أن هذا التهديد هو سلاحهم الفتاك لإسقاط صمود المرأة وإجبارها على الاستسلام و إعطاء الاعترافات كيفما يشاءون حيث تقول الأسيرة رائدة محمد شحادة ( التهديد بالاغتصاب هو السيف الذي سلطوه على عنقي .. اعترفي وإلا هذا الجندي سيقوم باغتصابك أمامنا .. كنت استعد لهذه اللحظة .. وسرت في بدني تيارات هزت كياني هزاً .. ولم تمض إلا لحظات حتى استجمعت أطراف شجاعتي وقلت -افعلوا بي ما تريدون فلا شيء عندي لأقوله لكم
.1 وتقول الأسيرة فاطمة الكرد أن المحققين حددوها بإحضار مومسات ليمارسن السُحاق معها وسيقمن باغتصابها بالقوة.. وأن حالة من الخوف والقهر والهزيمة قد سيطرت عليها إلا أنها سرعان ما استجمعت قوتها وتتغلب على هذه الرهبة .. و أكدت الأسيرة صفاء دعيبس على هذه الأساليب الوحشية بقولها ( قال لي وهو يقترب مني هل كنت عذراء عندما أخذك زوجك .. صوبت له نظرة احتقار .. ثم هددني أنه سيجعلني أركع بإحضار من يعتدي على شرفي ) بينما الأسيرة رحاب العيساوي تقول بأنها هددوها بإحضار رجل درزي ليمارس معها الجنس إذا لم تعطهم اعترافاً كاملاً بما يريدونه .. و إنها على الفور وبمنتهى الثبات بدأت تخلع ثيابها وفي هذه اللحظة قذف المحقق بعلبة البيرة في وجهها وهو يصرخ ويسب بألفاظ بذيئة
الضغط النفسي : التحقيق رحلة معاناة تتعرض فيها الأسيرة لشتى ألوان الممارسات والتعذيب حيث يهدف المحققون إلى استنباهها وحشروها معه في غرفة واحدة مليئة بالمرايا العاكسة وفي وسط الغرفة طاولة صغيرة وضع عليها مسدس وطلبوا من والدها أن يقنعها بالاعتراف حيث كان التهديد بحضور الأقارب والأهل أحد أسلحة المحققين في انتزاع ما يريدونه من ضحيتهم
.2 وكامرأة تعرضت للاعتقال أكثر من مرة فإنني لم اشعر بالرعب بقدر ما أحسست أثناء التحقيق أنني يجب أن أكون مثل الرجال ..لقد القوا بي في زنزانة رهيبة كئيبة ومظلمة ليس فيها إلا العتمة والبرد وحنفية الماء ساعات طويلة يخيل إليك أنها دهور وأنت وصيد لا صوت ولا حركة ، لاحس أنا وأفكاري والفراغ والصمت والانتظار المشحون بالقلق .. خمسة عشر يوماً وأنا وحيدة مع هذا الفراغ الموحش لا اعرف الوقت ولا الأيام .. فقد تاهت ذاكرتي و أكاد لا اعرف ليلي من نهاري .. وهذا الوضع النفسي عاشته مثلي مئات الأسيرات إذ كانوا يبغون إيصال الأسيرة إلى حالة من اليأس والشعور بالوحدة والاستسلام
ومن ألوان الاضطهاد النفسي التي تستخدمها أجهزة السلطات الصهيونية القذف بعشرات الساقطات اليهوديات من بنات الهوى اللواتي يندفعن إلى حجرات السجن بتخطيط من المحققين يتصرفن بكل تهتك وابتذال من اجل دفع الأسيرات إلى الاستسلام رغبة في الخروج والخلاص من هذا الواقع المأساوي المثقل بكل ألوان الاضطهاد كما حدث مع الأسيرة عبلة طه إذ هاجمتها مومسات “إسرائيليات” داخل زنزانتها أمام عيون الشرطة
الشبح وعدم النوم : استخدم المحققون أسلوب الشبح للأسيرة الفلسطينية لساعات طويلة ، والشبح يتمثل بوضع كيس له رائحة نتنة على رأس الأسيرة بحيث يغطي وجهها ويجعل تنفسها صعباً ، ويتم تقييد يديها للخلف وتركها واقفة أو مقرفصة ساعات طويلة دون حراك ، ويصاحب ذلك منع الأسيرة من النوم فترات طويلة وكذلك من تناول الطعام في محاولة لإرهاقها وإجبارها على الاعتراف واطاعة المحققين وتقول الأسيرة سهام البرغوثي عن ذلك (أنهم يلجأون ألان إلى الشبح وأساليب التعذيب القائمة على إرهاق البدن دون أن يتركوا أثارا ظاهرة على الجسد ولكن هذا اللون من التعذيب له خطورته القاتلة فهو لا يترك أثارا فورية على جسد الإنسان ولكن بمرور الزمن يتسبب في ترك أمراض مزمنة مثل القرحة والروماتيزم والديسك والضغط وغير ذلك
.3 تقول الأسيرة رائدة محمد شحادة .. ( وجدت يدين غليظتين متغطرستين تحشران رأسي في كيس ضخم كريه الرائحة خشن الملمس ثم تضعان يدي في قيود محكمة لا فكاك منها لم اعد أرى شيئاً يداي مربوطتان وكيس نتن الرائحة يكتم أنفاسي وصوت يغيض أمر يطلب مني أن أقف بجانب هذا الجدار دون آن أتحرك أو انبس ببنت شفه
أصوات التعذيب والموسيقى الصاخبة : تفنن المحققون الصهاينة في تعذيب الأسيرات وزرع الرعب والكوابيس في نفوسهم من أجل إخضاعهن واستسلامهن .. ومن هذه الأساليب اقتياد الأسيرة إلى غرفة منعزلة تتصل بغرفة أخرى وضعوا بها جهاز تسجيل وعليه صوت معتقل فلسطيني يصرخ ويستغيث بقوة وعنف وبصوت يفتت الأكباد ثم يتم نقل المعتقلة إلى غرفة مليئة بالدم والعصي والثياب الممزقة كل ذلك لإخضاع المعتقلة إلى حالة ذهنية وعصبية تجعلها تستسلم دون مقاومة تذكر
.4 الضرب والاعتداء : لم يتوان المحققون عن ضرب المعتقلة بشكل همجي ووحشي أثناء استجوابها .. وهناك من يدعي حتى الآن أن الاحتلال إنساني اليبرالي ، فأي إنسانية تلك التي تمنع فتاة عزلاء من تغيير ثيابها وأية ليبرالية تلك التي تهدد بالاغتصاب والعري والركوع والتجويع والحبس الانفرادي .. فالأسيرة خديجة أبو عرقوب تعرضت للضرب إلى درجة أن نتفوا شعر رأسها أثناء التحقيق معها في الخليل وفي القدس وبالرغم من أن ميثاق جنيف الصادر في 12 آب 1949 بشأن حماية المدنيين أبان الحرب ينص في البند الحادي والثلاثين على أنه لا يجوز أن يمارس أي ضغط لا نفسي ولا جسدي ضد المحتلين خاصة بغرض الحصول على معلومات منهم أو من طرف ثالث رغم هذا النص الصريح إلا أن الأسيرة خديجة ضربت وعذبت من قبل رجال الشرطة وبشكل وحشي وتقول خديجة (ضربوني ، أرادوا خنقي ، نتفوا شعري ، هددوا بأنهم سيأتون بجنود ليغتصبوني لم يكن مجرد تهديد ، لقد دفعوا بجندي كالبغل ليختلي بي وبدأ الوحش بفك ثيابه أمام ناظري ..) ولم تردع المحققون أية اعتبارات أخلاقية وإنسانية حتى من الاعتداء على النساء الحوامل .. وهذا ما جرى للأسيرة عبلة طه التي تم الاعتداء عليها بالركلات وهي حامل في شهرها الثاني ، وعندما بدأت تنزف لم يستدعوا طبيباً بل اخذ المحققون يساومونها لأجل أن تعترف مقابل إحضار طبيب
.5 ولعل ( مسلخ المسكوبية ) يظل شاهداً على الفاشية “الإسرائيلية” ، تفوح من كل زنازينه وجدرانه روائح الموت والإرهاب في كل متر من هذا السجن شهد ليالي عذاب ، وصراخ المرأة الفلسطينية وهي تلتحم وتشتبك مع الجلادين العتاة .. وشهادة الأسيرة مريم الشخشير نموذج ساطع عن حجم المأساة التي تعرضت لها المرأة الفلسطينية عندما هجم عليها شرذمة من الجنود ، خلعوا بمعطفها وحاولوا تجريدها من جميع ملابسها ، طرحوها أرضا ثم ثبتوا قدميها في أحد الكراسي وانهالوا عليها ضرباً موجعاً متلاحقاً حتى فقدت الوعي … وبعد أن أفاقت بدأوا ينهالون عليها بالضرب من جديد في كل أنحاء جسدها
الخلاصـة
إن ما ورد هو جزء يسير من رحلة الألم والبطولة التي سجلتها المرأة الفلسطينية المناضلة وهي تواجه الاحتلال وأساليبه البشعة التي لم يذكر التاريخ مثيلاً لها .. وقد سقطت كل النظريات الأمنية والطرائق الإرهابية التي استخدمها الجلادين أمام جبروت وكبرياء المرأة الفلسطينية التي رفضت أن تركع ، وكانت شجاعة في تحديها ، وعظيمة في دفاعها عن شرفها وكرامتها .. ويبقى شلال التضحيات والعذابات التي تعرضت لها المرأة الفلسطينية الأسيرة خير شهادة على إبراز وجه الاحتلال ، هذا الوجه العدواني وكشف زيف ادعاءاته و اخاديعه ، وتنصله من أي بعد إنساني واحترام للمبادئ والمواثيق الدولية .. إن صرخة المرأة الأسيرة هي تعبير عن جريمة المحتلين تبقى مدوية ومقلقة تهز أركان هذا الكيان المسخ
القسم الثاني
قراءة في المسيرة الاعتقالية في سجون النساء
السجن علمني كيف أعيش بكرامة
الأسيرة مي الغصين
أقامت سلطات الاحتلال منذ عام 1967 ثلاثة مراكز لاعتقال المناضلات الفلسطينيات ، الأول في نابلس ، والثاني في القدس ( المسكوبية ) والثالث في غزة ، وقد شهدت المناضلات في هذه المراكز معاملة قاسية جداً ، وزاد من قساوة ذلك قلة عدد المعتقلات في الأسر في مرحلة البدايات ( 1967 _ 1980 ) الأمر الذي جعل الطلائع الأول للمناضلات الأسيرات وعلى رأسهن فاطمة البرناوي وتريزا هلسة وعبلة طه أكثر معاناة من غيرهن .. خاصة وأنهن واجهن السياسة الشرسة التي استهدفتهن .. ومع ذلك فقد أثبتت أسيرات الثورة قدرتهن على الصمود والمواجهة بالتعاون والتعاضد والتكامل التام والكامل مع أسرى الثورة في المعتقلات الأخرى
لقد كانت مراكز توقيفهن الثلاث الأول ( غزة ، القدس ، نابلس ) مراكز قمعية حقيقية انعدم فيها الحد الأدنى من الشروط الصحية والمعاملة الإنسانية فكان الضرب والإذلال والإهانة من السمات البارزة لتلك المراكز ، وقد تشابهت حالات القمع والإجراءات القاسية التي طبقت على سائر السجون الإجراءات التي استهدفت النساء الأسيرات
وكانت الأسيرة الفلسطينية فاطمة البرناوي أول أسيرة تدخل تجربة الاعتقال ، وهي من مواليد القدس كانت تعمل ممرضة في مستشفى قلقيلية ، اعتقلت في أواخر عام 1967 ، وكان معتقل النساء في سجن الرملة هو المعتقل الذي تم به احتجاز الأسيرات حتى عام 1986 ، حيث تم نقل الأسيرات بعد عملية تبادل الأسرى عام 1985 إلى معتقل تلموند ، وبعد الإفراج عن 25 أسيرة فلسطينية في بداية عام 1997 أعيد استخدام سجن الرملة كمكان لاحتجاز الأسيرات
لقد كان معتقل النساء في الرملة ( نفي ترتسا ) الذي يقع بالقرب من سجن الرملة عبارة عن غرفة واحدة ، ولكن بعد توافد العديد من الجنائيات اليهوديات وبعض المناضلات الفلسطينيات قامت إدارة السجن بإنشاء قسم كبير خاص بالمعتقلات والسجينات ونتيجة تطور نشاط الحركة الثورية وتصاعد المقاومة الفلسطينية اخذ عدد الأسيرات الفلسطينيات يزداد في المعتقل واثر ذلك اضطرت إدارة السجن إلى إقامة قسم خاص بالمناضلات الفلسطينيات وقد أدينت معظم المعتقلات اللواتي اعتقلن في تلك الفترة بالقيام بأعمال عسكرية ضد العدو الصهيوني وصدرت بعضهن أحكام عالية وصلت إلى مدى الحياة
واتسمت نضالات المعتقلات في المرحلة الأولى للمعتقل بالعفوية والتخبط دون تحديد أولويات أو مبادئ للحياة الاعتقالية وهذا يعود إلى افتقار المعتقلات في تلك الفترة إلى الوعي السياسي والتنظيمي وضعف الاتصال بينهن على مختلف الأصعدة ، وكانت العلاقات بين المعتقلات مختلطة وغير منظمة في المرحلة الأولى فلم يكن هناك تنظيمات أو فصائل تحكمها قوانين وضوابط .. بل كان هناك تجمع عام لجميع المعتقلات اللواتي تغلب على علاقاتهن السمة الشخصية أكثر من العلاقة التنظيمية الواعية وحتى فترة متأخرة أوائل الثمانينات لم يكن هناك لجان اعتقالية تمثل المعتقلات لدى إدارة المعتقل ولا حتى لجان تنظيمية تحكم العلاقات بصورة منظمة .. وعلى الرغم من ذلك فقد خاضت المعتقلات منذ أوائل السبعينات وحتى عام 1980 العديد من النضالات من اجل المحافظة على هويتهن السياسية كمناضلات يمثلن المرأة الثائرة ولانتزاع حقوقهن الإنسانية من إدارة السجن التي تحاول دائماً وبشتى الطرق إذابة الهوية النضالية للأسيرات وقتل روح الثورة فيهن … حيث عمدت إدارة المعتقل إلى إجبار المعتقلات على العمل في مرافق العمل الإنتاجية والمشاركة في طهي الطعام لجلداتهن ، وهذا الأسلوب يدخل ضمن استراتيجية العدو الهادفة إلى تحويل اليد التي كانت تحمل السلاح ضده إلى يد تشارك في بناء وتدعيم اقتصاده والى تفريغ المناضلات الفلسطينيات من محتواهن الوطني وتحويلهن إلى مجرد أدوات
وقد اخذ هذا الوضع يتجه وجهة جديدة في أواخر السبعينات واوائل الثمانينات عندما دخلت إلى المعتقل مجموعات من المناضلات اللواتي قطعن شوطاً لا بأس به من الوعي السياسي والتنظيمي ، فبدأت تظهر داخل المعتقل أطر تنظيمية واضحة تتعامل فيما بينها حسب ضوابط وقوانين محددة .. حيث اتسم النضال في هذه المرحلة بسمة منظمة وعملية بعيدة عن الهوجائية والتخبط والتسرع و أفرزت من قبل السجينات لجنة اعتقالية للحوار مع إدارة المعتقل والتمثيل المعتقلات ، ومن ذلك الحين أصبح الوضع يسير بخطى حثيثة واعية نحو الأفضل إذ بدأت الأسيرات بتحديد أولويات الصراع وبناء أسس سليمة لوضع اعتقالي عن طريق خوض النضالات ضد القوانين المفروضة عليهن والتي لا تتناسب مع مبادئهن كثائرات فكان الإضراب الشهير الذي خضنه بتاريخ 28/4/1970 وتمثل شكل الإضراب بفصل طعامهن عن طعام السجانات تعبيراً عن رفضهن المشاركة في صنع طعام سجاناتهن
وقد امتد هذا الإضراب لمدة تسعة اشهر متواصلة مارست إدارة المعتقل خلال هذه الفترة أساليب الضغط والإرهاب حيث صودرت الكتب والمذياع ومنعت الأسيرات من الخروج إلى ( ساحة النزهة ) أو ما تسمى ( الفورة ) وتقلصت زيارات الأقارب إلى زيارة واحدة كل شهرين في محاولة يائسة من إدارة السجون لشل الإضراب وكسره كما تخلل هذه الفترة رش الغاز السام والمسيل للدموع بكميات كثيفة جداً مما سبب إصابة العديد من الأسيرات بإصابات بالغة وحروق وتشويهات وبعد تسعة اشهر توج نضال الأسيرات بقبول الإدارة بمطلبهن وتبع ذلك تثبيت (( اللجنة الاعتقالية )) كممثل شرعي للمعتقلات لدى الإدارة وتحسينات أخرى في الأمور الحياتية للمعتقلات مثل نوع وكمية الطعام المقدم لهن .. وقد تجلت صورة المرأة الفلسطينية القادرة على خوض الصراع بأصعب أشكاله والعيش ضمن أصعب الظروف الاعتقالية والمحافظة على هويتها النضالية
ولم يكن هذا الصراع هو نهاية المطاف ، فالمسيرة النضالية واصلت تفاعلها وارتقاءها ، حيث كانت هناك إضرابا أخرى بهدف تحسين الأوضاع العامة ، وتدرجت الأسيرات في خطواتهن النضالية لتغيير القوانين الجائرة والمفروضة عليهن ، حتى كان إضراب 12/11/1984 المفتوح عن الطعام حيث حدد مطلب رفض العمل في مرافق العمل الإنتاجية الإسرائيلية وحصر العمل في مواقع الخدمات التي تخص الأسيرات أنفسهن كالتنظيف والمطبخ والخياطة إضافة إلى فصلهن التام عن السجينات الجنائيات ووضعهن في قسم خاص بهن وتوفير ظروف إنسانية واعتقالية كتلك الموجودة في بقية السجون ، وقد انتصرت إرادة الأسيرات في نهاية المطاف .. وجدير بالذكر إن الصراع مع إدارة المعتقل لا يتوقف من مجرد استجابة الإدارة لمطالب جزئية ومحددة للأسيرات إذ سرعان ما تحاول الإدارة الانقضاض على إنجازات الأسيرات
وقد خاضت الأسيرات سلسلة من الخطوات النضالية مع سائر الحركة الأسيرة في السجون لأجل تحسين أوضاعهن ووضع حد للسياسات الإسرائيلية الهادفة إلى قهر وإذلال الإنسان الأسير .. فقد شاركن في الإضراب الشهير الذي استمر سبعة عشر يوماً بتاريخ 27/9/1992 . ( ملحمة القيد ) والذي شاركت به كل السجون من اجل إغلاق قسم العزل في نيتسان الرملة وتحسين شروط الحياة داخل السجون
والذي ميز نضال الأسيرات ، هي الملحمة المجيدة التي سطرنها في 18/6/1995 في الإضراب السياسي الذي خاضته الحركة الأسيرة تحت شعار" الحرية كل الحرية للأسرى دون شرط أو تمييز ) على اثر عدم تطرق اتفاقيات إعلان المبادئ التي وقعت بين م . ت .ف وحكومة “إسرائيل” في 13/9/1993 لموضوع الأسرى ورداً على سياسة الابتزاز والمساومة “الإسرائيلية” وفرض الشروط المذلة على قضية المعتقلين
ويبقى أن نذكر انه لم يحدث في تاريخ الحركة الأسيرة ذلك الموقف الملحمي الأصيل الذي عبرت عنه الأسيرات في بداية عام 1997 على اثر التوقيع على اتفاقية إعادة الانتشار في الخليل عندما رفضن الإفراج المجزوء على اثر اعتراف حكومة “إسرائيل” ورفضها الإفراج عن خمس أسيرات دون سائر الأسيرات الأخرى ، فأعلن التضامن مع بعضهن البعض ورفضن شعار إما الإفراج للجميع ، وإلا فلا نريد الإفراج .. مما اضطر السلطات “الإسرائيلية” وبعد مماطلة استمرت أربعة عشر شهراً إلى الإفراج عن جميع الأسيرات
الخلاصـة
إن تجربة الأسيرات الفلسطينيات كانت تجربة قاسية مليئة بالمعاناة والآلام ، خضن معارك كثيرة وفي ظروف معقدة وصعبة لأجل تحسين أوضاعهن الإنسانية والمعيشية وان التحدي الصريح هو الأسلوب الوحيد الذي استطعن من خلاله تحقيق مطالبهن في مواجهة قمع إدارة المعتقل .. وان ما تحقق لم يكن بلا ثمن ، ولم يكن سهلاً ، بل دفعت الأسيرات ثمناً باهظاً له .. من إهانات ، وقمع بالغاز ، واعتداء عليهن وعزلهن فترات طويلة بالزنازين .. وحرمانهن من الزيارة .. إضافة إلى ما أصاب عدد كبير منهن بأمراض صعبة ، ولكن النتيجة كانت هي الانتصار ، واثبات جدارتهن كنساء فلسطينيات مناضلات على إسقاط الحسابات “الإسرائيلية” وتحطيم قوانينها الأمنية والعسكرية .. وقد حولن السجن إلى مدرسة ثورة ، تعززت من خلاله شخصية الأسيرة ، واكتسابها الثقافة والوعي والقدرة على المجابهة في أقصى الظروف
ونستطيع أن نلخص أهم مطالب الأسيرات في مسيرة معاركهن ضد السياسات ا”لإسرائيلية”
1. وضع حد لممارسات السجينات اليهوديات وفصلهن في قسم خاص
2. إنهاء العمل في مرافق الإنتاج “الإسرائيلية”
3. تحسين الطعام والغذاء كماً ونوعاً والإشراف على طهيه بدل الأسيرات الجنائيات .
4. تحسين التهوية والإضاءة داخل الغرف وتخفيف الازدحام .
5. إدخال الكتب الثقافية والمجلات والصحف .
6. زيارة الأهل بدون شيك أو فاصل في غرف الزيارات .
7. السماح بإدخال الأدوات الرياضية وأدوات التسلية .
8. تثبيت اللجان الاعتقالية كلجان رسمية وممثلة للأسرى لدى إدارة السجن .
الخاتمة
لقد أكدت تجربة الأسيرات المناضلات، عمق وكثافة هذه التجربة التي خاضتها المرأة الفلسطينية بكل مكوناتها النفسية لتحافظ على كرامتها ومبادئها ووجودها من الانسحاق والتحطيم أمام قسوة الأوضاع ووحشيتها .. لقد حولت الأسيرة الفلسطينية السجن إلى مدرسة ووقفت بإرادة صلبة أمام كل أساليب التفريغ والتطويع والاضطهاد ، لتبني داخل السجن مؤسسة ثقافية وتنظيمية وفكرية ، وتخلق حالة إنسانية عالية من التحدي رغم الحصار والقيود
وتبقى هذه التجربة المستمرة جزء من الصراع الدائم والمرير مع الاحتلال ، لعبت المرأة الفلسطينية فيه دور القائد والمقاتل وحملت إليهم الوطني مثلها مثل الرجل ، لم تردعها التقاليد الاجتماعية ، ولم تثنها أساليب الجلادين اللا إنسانية والقمعية ، بل انطلقت بكرامته وشرفها وصلابة عزيمتها تشق دورها الريادي لاجل مستقبل اجمل وخال من الظلم والاستعباد .. فسجون النساء أعطت المجتمع الفلسطيني المبدعات فنياً وثقافياً والقائدات في مجالات العمل المختلفة .. وظلت المرأة الفلسطينية الأسيرة شوكة.