الديمقراطية بالتنقيط!!

البدوي عبد العظيم البدوي

لا شك أننا جميعًا سمعنا عن الديمقراطية، والتي يتم بواسطتها تداول السلطة بين أبناء الوطن الواحد بطريقةٍ سلميةٍ وسلسة؛ وفقًا لضوابط وآليات محددة تتسم أول ما تتسم بالشفافية والحياد والنزاهة عبر صناديق الانتخاب، ووفقًا لمعايير دولية معروفة، وفي إطارِ مراعاة حقوق الإنسان، والمحافظة على الحريات العامة للمواطنين في الدول التي تمارس تلك الديمقراطية.

ومن المعروف أن مصر من بين أسبق بلدان العالم التي مارست الديمقراطية، وكان لدينا أقدم مجلس نيابي في تاريخ المنطقة احتفظ فيها المواطنون بقدرتهم على التعبير عن آرائهم وانتماءاتهم السياسية وحقوقهم التي ظلَّت مكفولة، ومنها حق التظاهر السلمي حتى كنت تجد في القاهرة أكثر من مظاهرة كل واحدة منها تطالب بمطلبٍ غير الأخرى، ودون أن يكون للأمن دورٌ يُذكر في التأثير على تلك المظاهرات، حتى إنني سمعتُ على شاشة التلفاز ذات مرة أن أحدًا من الفنانين لم يكن معه نقود ليركب الترام فركب على أكتاف المتظاهرين إلى أن وصل إلى محطته فنزل وترك المظاهرة، ولا أذكر أنه قد تمَّ اعتقاله أو مراقبته أو سحله أو.... أو...

وظلَّ الحال على ذلك إلى أن قامت الثورة وبعد قيامها بقليل إلى أن استطاع النظام أن يزرع الخوف والرعب في قلوب أبناء الشعب ممن سمَّاهم (أعداء الثورة)، وهو وصف يُطلق على أي إنسان ليُلقى به في غياهب السجون لا يعرف أحد عنه شيئًا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

وظلَّ الحال على ذلك إلى أن سمعنا عن الديمقراطية الموعودة التي سوف نتمتع بها، ولكن على مراحل، وواحدة واحدة حتى يستطيع الشعب تحملها يعني بصريح العبارة (ديمقراطية بالتنقيط!!)، كما الري بالتنقيط وكأنَّ الشعب المصري لم يمارس تلك الديمقراطية في يومٍ من الأيام حتى جاء هذا الحاكم أو ذاك كي يعلم شعبًا بكامله معنى الحرية والقدرة على التغيير رغم ما لهذا الشعب من تاريخٍ وحضارةٍ حتى قيل إن أحد كبار المسئولين في بلادي سُئل عن رأيه في التغيير؟ فقال: "التغيير ده سنة الحياة"، قالوا طب وسياتك مش هتتغير؟.. فقال: "أنا فرض مش سنة"!!.

في الحقيقة أن ما رأيناه في بلادنا خلال العقود الماضية وانتهاءً بهذه الأيام من وعودٍ بالتغيير كلها كانت حقيقية، فقد تم تغيير العقلية المصرية وممارستها السياسية؟!! نعم فقد تلَّوث مفهوم الديمقراطية لدى المصريين مع ما تلَّوث من ماء وأرض وهواء بلادي وإمعانًا في تزوير الديمقراطية، فقد امتدت الأيادي للعبث في الدستور المصري ثم القوانين المكملة له والخاصة بالانتخابات وممارسة الحقوق السياسية حتى شوهته إلى أن أصبح تداول السلطة جريمة تواجه بها النيابة العمومية النشطاء السياسيين خصوم الحزب الوطني (..... أنت مُتهم بعمل.... ومحاولة الوصول إلى الحكم)، (أنت متهم بتعطيل أحكام الدستور والقانون) في مسرحية هزلية سيئة لم يعد يستطيع أي مصري وطني حر الاستمرار في الجلوس مكتوف الأيدي لمشاهدتها.

إن الحملة المسعورة والتي شنَّتها ولا زالت تشنها أجهزة (الذعر) الأمن على مرشحي مجلس الشعب ومؤيديهم في مختلف الدوائر على مستوى الجمهورية لا تُعبِّر عن أي نوعٍ من الحرية أو الشفافية اللهم إلا حرية الشرطة في الاعتداء على الحريات العامة للمواطنين وإجهاضًا لكل محاولات التغيير التي تسعى إليها القوى الحية في الشارع السياسي المصري.

تلك الحملة أعتقد أن أول مؤشراتها كانت بوقعة الاعتداء على طالبة جامعة الأزهر بالزقازيق، والتي مرَّت دون عقاب أو رد فعل رسمي سواء من الداخلية أو رئاسة الجامعة أو مشيخة الأزهر ضد مرتكبها؛ مما يعدُّ بمثابة جس للنبض ورسالة خطأ في التوقيت الخطأ، والذي يعاني فيها الشعب المصري بكامله حتى غير المهتم بممارسة العمل السياسي بالظلم والقهر والفقر وانتشار الأمراض بصورةٍ غير مسبوقة في التاريخ الحديث، والتي سيحاسب التاريخ مرتكبي كل هذه الجرائم يومًا ما، خاصةً في ظلِّ دستور يؤكد عدم سقوط جرائم الحريات بمضي المدة حتى وإن طالت.

وما العمل....؟

لا بد إذن أن يكون هناك رد فعل شعبي سلمي على ارتكاب أي جريمةٍ من هذا النوع ضد حقوق الشعب وحرياته العامة بدايةً بهذا الشرطي الذي بلغت به شجاعته أن يضرب الفتيات أمام إحدى فروع جامعة الأزهر، مذكرًا إيانا ببيت الشعر الشهير:

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

وحتى يكون هناك رد أكثر إيجابيةً وبصورة سلمية وحضارية يُساهم فيها الشباب المهتم بالدفاع عن قضية الحريات العامة بنشر صورة هذا الشرطي، وخاصةً في المنطقة التي يسكن بها، والتي ترعرع فيها ليرى أهله وأصحابه وزوجته وأخواته الفتيات مدى ما وصل إليه ولدهم من شجاعة وبطولة في ضرب البنات الصغار لنشكل له محاكمة شعبية يجدها في أعين كل مَن يتعامل معهم وحتى يُفكِّر هو ومَن يسيرون على دربه ألف مرة قبل أن يقوموا بمثل هذا الفعل الشائن.

كما يجب أن تُفكِّر المعارضة المصرية في بدائل جديدة تلوح بها (على الأقل) للنظام منها: عدم اعترافها بنتيجة الانتخابات إذا تمَّت في ظلِّ ذات المنظومة القمعية والقهرية، كما يحق لقوى المعارضة تلك أن تطالب بإشرافٍ دولي على الانتخابات التي تجري على أرض بلادنا ولا يحق لأي من أباطرة الحزب الوطني أن يرفض ذلك، خاصةً أنهم أشرفوا على العديد من الانتخابات التي أُجريت في دول أجنبية ولم يعتبروا أنفسهم متدخلين في شئون تلك الدول الداخلية، وفي كل الأحوال يحق للمعارضة اللجوء للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية التي وقَّعتها مصر، والتي أصبحت جزءًا من نظامها القانوني الداخلي، والتي تؤكد الحريات العامة وحقوق الإنسان وعندها لن ينفع الندم، لقد أحسَّ المصريون بالعطش الشديد للحرية التي تذوقوا بعضًا منها في الانتخابات البرلمانية الماضية في 2005م، ولم تعد تكفيهم جرعات الديمقراطية التي يعطيها النظام بالقطارة أو الديمقراطية بالتنقيط، فهل يرضى الناخب المصري بما يُعطى له بالتنقيط أم يغير ذلك الواقع المؤلم ويسترد حريته وحقه في التغيير والتعبير عن رأيه وحريته السليبة؟

هذا ما ستجيب عنه الأيام.